کد مطلب:370248 یکشنبه 20 خرداد 1397 آمار بازدید:637

الفصل الأول: ظهور الخوارج












الصفحة 112












الصفحة 113


بدایة:


إن ظهور «الخوارج» فی مناسبة حرب صفین لم یكن أمراً عفویاً، وولید ساعته. وإنما قد كان ثمة أجواء ومناخات، وكذلك عوامل وأسباب ساعدت على ظهورهم.


وقد تقدم فی الباب الأول ما یفید فی هذا المجال، وسنجد فی هذا الكتاب الشی الكثیر مما یشیر إلى ذلك أیضاً. ونرید أولاً أن نقدم موجزاً عن مرحلة ظهورهم العلنی، لیكون القارئ على بصیرة من أمره..


فنقول:


ظهور «الخوارج»:


الخوارج: فرقة ظهرت فی النصف الأول، من القرن الأول الهجری، وبالتحدید فی مناسبة حرب صفین، التی دارت رحاها بین أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه الصلاة والسلام)، الخلیفة الشرعی بكل ما لهذه الكلمة من معنى، من جهة، وبین معاویة بن أبی سفیان، الرجل الباغی الذی كان یحاول الاستئثار بأمر الأمة لنفسه، من جهة أخرى.












الصفحة 114


وكان ظهورهم ـ العلنی ـ بعد خدعة رفع المصاحف فی تلك الحرب، من قبل جیش معاویة، بمشورة من عمرو بن العاص، بعد أن اتضح بما لا یقبل الشك حتمیة هزیمة جیش الشام، لو استمرت الحرب.


وقد أحدثت هذه الخدعة زلزالاً فی جیش علی (علیه السلام)، حیث أدت إلى إجابة أكثر ذلك الجیش إلى حكم المصحف ـ على حد تعبیرهم ـ وبقی (علیه السلام) مع أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم فی عدة یسیرة، یواجهون تهدیدات أولئك الانفصالیین بنفس المستوى أو أشد من التهدید الذی كان یواجههم به جیش أهل الشام.


ولم یكن یحق له (علیه السلام) أن یلقی بهذه الصفوة إلى التهلكة، كما ذكره (علیه السلام) فی احتجاجه على «الخوارج» حین قال لهم: «.. وأما قولكم: إنی لم أضربكم بسیفی یوم صفین، حتى تفیئوا إلى أمر الله، فإن الله عز وجل یقول: (ولا تلقوا بأیدیكم إلى التهلكة)(1) وكنتم عدداً، وأنا وأهل بیتی فی عدة یسیرة»(2).


تركیبة الفئة الرافضة للقتال:


وعن تركیبة الفئة الرافضة لقتال أهل الشام نقول: إنه قد یكون فی تلك الجماعة عناصر مدسوسة، ترى أن من مصلحتها تحریك الحوادث فی هذا الاتجاه، أو ذاك.. وأخرى لم تستطع فهم الموقف الصحیح والرسالی له (علیه السلام). ووقعت بالفعل تحت تأثیر خدعة رفع


____________



(1) سورة البقرة ـ الآیة 195.


(2) بهج الصباغة ج7 ص146 عن العقد الفرید.













الصفحة 115


المصاحف، وشكت فی صحة القتال بسبب ذلك.


وقد یكون ثمة فئة ثالثة قد قبلت التحكیم من موقع إحساسها بالضعف، والتخاذل والسأم من الحرب.


وقد یكون ثمة من یرغب حقاً فی حقن الدماء، بأی ثمن كان.


ولكن مما لاشك فیه هو: أن فئة «الخوارج» كانت فی جملة الفریق الرافض للقتال. والنصوص الدالة على ذلك تكاد لا تحصى، ولا مجال لحصر مصادرها، وسیمر على القارئ الكریم بعض منها، انشاء الله. بل هذا هو العنصر الأساس فی خروجهم على أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام).


التحكیم بنظر علی (علیه السلام):


وحین قبل علی (علیه السلام) بالتحكیم، تحت ضغط شبح الفتنة التی ظهرت ملامحها فی جیشه، وكان علیه أن یمنع من وقوعها، فإنه قبل بالتحكیم الذی لو التزم الحكمان بشروطه، وفق ما یفرضه علیهما الواجب الشرعی لكانت نتیجته هی إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وذلك یعنی ظهور علی (علیه السلام)، وظهور سلطانه ونصره، وخذلان معاویة وخطه الانحرافی واندحاره، وبوار حجته.


ولذلك نجد علیاً (علیه السلام) یقول لأبی موسى بثقة وحزم: «أحكم بالقرآن، ولو فی حز عنقی»(1).


وقال فی خطبته لما استوى الصفان بالنهروان: «وأخذت على


____________



(1) راجع على سبیل المثال: أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص333.













الصفحة 116


الحكمین فاستوثقت، وأمرتهما أن یحییا ما أحیا القرآن، ویمیتا ما أمات القرآن، فخالفا أمری الخ..»(1) وهذه الخطبة أشهر من أن تذكر، وهی كالنار على المنار، وكالشمس فی رابعة النهار.


خیانة الحَكَمین وظهور المحكِّمة:


ولكن الذی تبلور على أرض الواقع هو أن الحكمین: أبا موسى وعمرو بن العاص، لم یریدا أن یحكما بما یوجبه القرآن ـ كما دلت النصوص المتضافرة، فإن أبا موسى كان لا یحب علیاً (علیه السلام)، وكان یرغب فی سوق الأمور نحو تولیة ابن عمر.. أما ابن العاص فكان همه سوق الأمور نحو معاویة، وإحكام الحیلة فی هذا الاتجاه مهما كان الثمن، فكانت النتیجة هی فشل قضیة التحكیم، وانتهى الأمر إلى تمكین معاویة من مواصلة بغیه، وعدوانه على الحق وعلى إمام الحق وعلى الدین.


ولكن ما یلفت النظر هنا، ویتسم بنوع من الطرافة هو أن أولئك الذین أجبروا علیاً (علیه السلام) على قبول التحكیم، وهددوه بأن یسلموه إلى معاویة أو أن یفعلوا به كما فعلوا بعثمان ـ هم أنفسهم حین انقلبوا علیه ووقفوا لمعارضة التحكیم قد اعتبروا قبوله كفراً وكفروا علیاً (علیه السلام) لقبوله به، وطلبوا منه (علیه السلام) أن یعترف بهذا الكفر، ثم أن یحدث توبة منه. وهذا ما صرحت به النصوص التاریخیة والحدیثیة الكثیرة، واعترف به «الخوارج» أنفسهم كما هو معلوم ومشهور(2).


____________



(1) الموفقیات ص326 وأشار فی الهامش إلى المصادر التالیة: تاریخ الطبری 5/84 وشرح نهج البلاغة ج1 ص458 والإمامة والسیاسة ج1 ص109 ومستدرك نهج البلاغة ص68.


(2) راجع على سبیل المثال لا الحصر: أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص370


=>













الصفحة 117


بل لقد كان مسعر بن فدكی، وابن الكواء، وطبقتهم من القراء، الذین صاروا فیما بعد خوارج، من أشد الناس فی الإجابة إلى حكم المصحف(1).


وقد ذكروا: أن من شعر أمیر المؤمنین (علیه السلام) الذی لا اختلاف فیه أنه قاله، وكان یردده، وذلك انهم ساموه أن یقر بالكفر ویتوب، حتى یسیروا معه إلى الشام، فقال:


«أبعد صحبة رسول الله (صلى الله علیه وآله)، والتفقه فی الدین، أرجع كافراً؟! ثم قال:


 









یا شاهد الله علی فاشهد إنی على دین النبی أحمد

من شك فی الله فإنی مهتد»(2)



وحین رجع (علیه السلام) إلى الكوفة، لم یدخل «الخوارج» معه، وساروا حتى نزلوا حروراء، وكانوا اثنی عشر ألفاً، وقیل: ستة عشر ألفاً(3).


____________



<=


وتاریخ الأمم والملوك، ط الاستقامة ج4 ص34 و36 و62 و63 و48 والكامل فی التاریخ ج3 ص344 و317 والخطط للمقریزی ج2 ص354 والعقد الفرید ج2 ص388 والملل والنحل ج1 ص115 والبدایة والنهایة ج7 ص289 و274 وتذكرة الخواص ص59 و96 و100 وشرح نهج البلاغة للمعتزلی ج2 ص217 و228 و274 ومناقب الإمام علی لابن المغازلی ص411 وبهج الصباغة ج7 ص99 و110 و111 و170 و129 و131 و167 عن الخلفاء، وكامل المبرد، وغیرهما والإمامة والسیاسة ج1 ص149 والخوارج والشیعة ص25 و32 والفخری فی الآداب السلطانیة ص93/94 وأدب المعتزلة ص24 ونور الأبصار ص96 و97 و99 والثقات ج2 ص296 والفصول المهمة لابن الصباغ ص78 و79 و90 و92 والموفقیات ص326..


(1) الأخبار الطوال ص191.


(2) االبدء والتاریخ ج5 ص136 وراجع تاریخ بغداد ج1 ص160. ولعل هذا الشعر قد قاله أولا أبو طالب، ثم أخذه علی (علیه السلام) یتمثل به..


(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج2 ص278 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص369 والكامل فی التاریخ ج3 ص189.













الصفحة 118


وفی نص آخر: أن الذین لم یدخلوا معه كانوا اثنی عشر ألفاً فی روایة المكثرین، وستة آلاف فی روایة المقللین(1).


وسیأتی المزید من الحدیث حول هذه الأرقام.


ثم كانوا یسمعون أمیر المؤمنیین (علیه السلام) الشتم، والتعریضات القاسیة(2).


ثم تمادى بهم حقدهم وبغضهم لأمیر المؤمنیین (علیه السلام)، ولم یقف عند حدّ الحكم علیه بالكفر والضلال ـ والعیاذ بالله ـ وإنما تجاوز ذلك إلى حد: أنه كان یُخشى من أن ینبش «الخوارج» قبره، فعمّی عن الناس؛ فلم یعرف(3).


ولكن الحجاج لعنه الله قد حاول أن ینوب عنهم فی هذه المهمة، فنبش ثلاثة آلاف قبر فی الكوفة من أجل العثور على جثة أمیر المؤمنیین (علیه السلام)؛ فلم یوفق لذلك(4).


«الخوارج» لیسوا أنصار الإمام (علیه السلام):


وإننا إذا لاحظنا ما تقدم: وما سیأتی إن شاء الله تعالى ـ وهی نصوص كثیرة جداً لا یمكن حصرها، ولا استیفاء مصادرها ندرك أن ما یدعیه بعض «الخوارج» أنفسهم(5)، من أن «الخوارج» كانوا هم أنصار الإمام


____________



(1) راجع على سبیل المثال: البدایة والنهایة ج7 ص270 و282.


(2) راجع أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص355 والبدایة والنهایة ج7 ص282.


(3) أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص497.


(4) مشهد الإمام علی فی النجف ص121 ومنتخب التواریخ ص291.


(5) راجع كتاب: الخوارج هم أنصار الإمام علی؛ فإن مؤلفه قد حاول تزویر الحقیقة التاریخیة.













الصفحة 119


علی (علیه السلام) وكانوا المعارضین للتحكیم من أول الأمر، وأنه «قد ارتبط ظهورهم برفض التحكیم، ولیس بالدعوة له»(1).


إن هذه الدعوى تخالف البداهة التاریخیة، وما هی إلا مجازفة فی القول، وتجنٍّ على الحقیقة، وتزییف للواقع التاریخی.. لا تستند إلى دلیل، ولا تعتمد على برهان.


غیر أن «الخوارج» أنفسهم وكذلك بعض من یتعاطف معهم قد بذلوا محاولات یائسة لتبرئة ساحتهم، وإظهار مظلومیتهم، والإنحاء باللائمة، وتسجیل اتهام مباشر إن أمكنهم ذلك ضد أمیر المؤمنیین (علیه السلام) بالذات.


وقد حاول بعضهم أن یستند إلى نصوص شاذة، ومریبة ذكرها مؤلف مجهول، أو یستشهد بروایة تنسب إلى ابن عباس أو غیره، أو بنصوص ذكرها ابن قتیبة فی كتاب الإمامة والسیاسة(2).


علماً بأن ما ذكره ذلك المؤلف المجهول وروایة ابن عباس لا ینهض دلیلاً على ما یدعون، إذ أن الظاهر هو أنهما یتحدثان عن مراحل لاحقة.. لا عما جرى بمجرد رفع المصاحف.


وأما ما ذكره ابن قتیبة، فإنه هو نفسه قد ذكر ما ینافیه ویدفعه فی نفس ذلك الكتاب(3)، رغم الكلام الذی یدور حول نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتیبة، أو حصول بعض التصرف فیه.


وربما یستدلون أیضاً بما رواه أحمد عن أبی وائل، من أن «الخوارج» قد طلبوا الهجوم على الذین اعتصموا بالتل، وذلك بعد القبول بالتحكیم


____________



(1) قضایا فی التاریخ الإسلامی ص62 وراجع ص51 و52 و53 و71 و72.


(2) راجع: المصدر السابق.


(3) الإمامة والسیاسة ج1 ص148.













الصفحة 120


من قبل علی (علیه السلام)(1).


ولكنه استدلال باطل.. إذ أن الروایة لم تذكر لنا شیئاً عن حقیقة ما جرى حینما رفعت المصاحف، فهل بادر علی (علیه السلام) للقبول من دون ضغوط من أحد، أو أنه قبل ذلك بعد أن اعتزله أكثر جیشه، ولم یبق معه سوى أهل بیته (علیهم السلام)، ونفر یسیر، وهدده أولئك المعتزلون له بأن یسلموه إلى معاویة، وفرضوا علیه قبول التحكیم. فلابد من الرجوع إلى نصوص أخرى لتعرفنا بما جرى لنجد أن الذین فعلوا ذلك هم أنفسهم الذین عادوا واعترضوا علیه لقبوله منهم ما فرضوه علیه.


تبرئة «الخوارج»، وإدانة علی (علیه السلام):


ویدعی البعض: أن الأشعث بن قیس المتواطئ مع معاویة، هو الذی أرغم علیاً (علیه السلام) على قبول التحكیم، ثم حرَّضه على قتل «الخوارج»، والوقیعة بهم فی النهروان، وبذلك یكون قد حرمه من خیرة جنده، وأكثرهم إخلاصاً لقضیته(2).


ونقول:


إن هذا البعض یرید أن یظهر علیاً (علیه السلام) على أنه لعبة بید الأشعث، ثم هو یرید تبرئة «الخوارج» من جریمة الإصرار على علی (علیه السلام) بقبول التحكیم، ثم تكفیره لأجل هذا القبول بالذات.


وفی نص آخر: أنه قد أظهر «الخوارج» على أنهم الفئة المظلومة المعتدى علیها وأنهم قد ارتكبت جرائم خطیرة بحقهم.


____________



(1) مسند أحمد ج3 ص485 و486..


(2) راجع قضایا فی التاریخ الإسلامی ص56 ونقله أیضاً عن البرادی ص66 وراجع أیضا: ص60 و79 و81.













الصفحة 121


ثم أدان علیاً بارتكاب جریمة قتل ومذبحة جماعیة فی حقهم.


ویزید من قبح هذه الجریمة كونهم كما قرره هذا القائل هم خیرة جند علی (علیه السلام).


ومما یجعلها أكثر قباحة وبشاعة: أن هؤلاء هم أكثر جند علی اخلاصاً لقضیته (علیه السلام).


ونقول:


إنه لم یشر إلى سبب اعتزال هؤلاء الذین زعم أنهم من المخلصین لعلی فی النهروان.


ولا اهتم بالنصوص المتواترة الدالة على أنهم هم الذین رفضوا الاستمرار فی قتال معاویة، وفرضوا التحكیم على علی (علیه السلام)، ثم اعتبروا ذلك كفراً.


ومن أین عرف أن أهل النهروان هم خیرة جند علی (علیه السلام)؟! وكیف یستطیع التوفیق بین دعواه هذه، وبین قول الأشتر: إنهم أراذل أهل العراق، وذلك حینما قال لهم: قتل أماثلكم، وبقی أراذلكم.


ولم یدلنا على مستنده العلمی القادر على ردّ كل تلك الحقائق التاریخیة الدامغة، التی تناقضه وتنافیه.


كما أننا لا ندری ما السبب فی اهتمام هذا الكاتب بتبرئة «الخوارج»، وتلمیع صورتهم، ثم تجریم علی (علیه السلام)، واتهامه بارتكاب جریمة إبادةٍ للخیرة من جنده، ولأكثر الناس إخلاصاً لقضیته.


وكیف أصبح الذین كفرّوا علیاً واعتزلوه، ونصبوا له الحرب أكثر الناس إخلاصاً للقضیة.












الصفحة 122


توریة علی (علیه السلام)، وشائعات «الخوارج»:


ویدعی المعتزلی: أن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، قد قال للخوارج كلاماً محتملاً لأكثر من وجه، ولكن الأشعث اضطره إلى التصریح، فكان ذلك سبب النهروان حیث ذكر أنه (علیه السلام) قصدهم إلى أماكن تجمعهم، وسأل أولاً عن الرجل الذی هم به اشد إطافة، فطلبوا منه أن یتوب، فقال لهم: «أنا استغفر الله من كل ذنب».


فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن علیاً (علیه السلام) رجع عن التحكیم، ورآه ضلالاً. وقالوا: إنما ینتظر أمیر المؤمنین أن تسمن الكراع، وتجبى الأموال، ثم ینهض بهم إلى الشام.


فلما طالبه الأشعث بذلك أعلن بتكذیبه، فخرجت حینئذٍ «الخوارج» من المسجد فحكّمت(1).


وقد اختصر ابن الأثیر هذا الحدیث بصورة أخلت بمضمونه، فراجع(2).


إذن، فقد تضمنت هذه الروایة أموراً هی:


1 ـ أن علیاً (علیه السلام) قد مارس أسلوب التوریة، لدرء الفتنة، دون أن یكون قد أظهر خلاف قناعاته، ودون أن یتنازل عن مبادئه.


2 ـ أن الأشعث قد مارس أسلوباً خبیثاً ألجأ أمیر المؤمنیین (علیه السلام) إلى


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج12 ص279 والحدیث المذكور أوردناه مع مصادره فی فقرة أخرى من هذا الكتاب، فراجع.


(2) الكامل فی التاریخ ج3 ص328.













الصفحة 123


التصریح بما لم یكن مضطراً قبل ذلك إلى التصریح به.


3 ـ إن «الخوارج» قد أشاعوا أمراً لم یتفوه به علی (علیه السلام) ولم یشر إلیه، ولا یعبر عن حقیقة موقف علی (علیه السلام).


4 ـ إن علیاً (علیه السلام) یبادر إلى مواجهة رأس «الخوارج» الذین هم به أشد إطافة؛ وذلك من أجل أن یحسم مادة النزاع، بقطع رأس الافعى، حیث إن سقوط هذا الرأس لا یبقی لهم أی عذر أو مبرر للتشكیك والخلاف، حیث لا یبقى أمامهم أشخاص آخرون یرون أنهم أدرى من زعیمهم الأكبر بالمصلحة، واعرف بواقع الأمور.


وكذلك لا یبقى ثمة من یقدر على اجتذاب الناس إلیه، بإثارة الشبهات، وإعطاء أمل كبیر بنصرٍ یطمحون إلیه، أو حلم عذب یراودهم، یأملون تحقیقه فی یوم من الأیام.


استطراد یفید فی جلاء الصورة:


وإن تزویر «الخوارج» للحقائق، لا یحتاج إلى مزید بیان ولم یكن هذا التزویر المشار إلیه فی هذه الروایة هو الوحید فی سلسلة أكاذیبهم ویكفی أن نذكر أنهم أنفسهم یعترفون: بأنهم كانوا إذا كان لهم هوى فی أمر صیروه حدیثاً..


وقد استمرت عملیة التزویر والتجنی عبر الأحقاب والأجیال، حیث عمد مؤرخو «الخوارج» فی الكتب التی وضعوها: «إلى التحامل على علی، وصوروه كقائد هزیل، متردد، ضعیف الشخصیة، مسلوب الإرادة»(1).


____________



(1) قضایا فی التاریخ الإسلامی للدكتور محمود اسماعیل ص66.













الصفحة 124


العجب هو الداء الدوی:


ولعل ما كان یتظاهر به «الخوارج» من عبادة، وصلاة كان یبعث فی نفوسهم المزید من العجب والغرور، حتى لیخیل إلیهم أن ما یأتونه هو الصلاح والخیر وأن ما یعتقدونه هو الصواب والحق الذی لا محیص عنه.. ویجب على كل أحد أن یلتزم به، وأن یتبعهم فیه.


أو على الأقل كانت العبادات القاسیة لعدد منهم، بمثابة جرعةٍ للآخرین من شبابهم، تجعلهم یعیشون خیالات حالمة ولذیذة تزیدهم تصلباً فی موقفهم، ورضا بنهجهم، واستسلاماً لما یدعونهم إلیه أولئك الذین كانوا یتظاهرون بالعبادة والتقوى.


تبریرات «الخوارج»:


لقد ارتبك المحكِّمة «الخوارج» فی تبریر موقفهم من أمیر المؤمنین، وقد عرف عنهم أنهم قد برروا ذلك بأن علیاً قد حكّم الناس فی دین الله، وأن ذلك قد أوجب كفره وخروجه من الدین.. بل زادوا على ذلك: أنهم هم أیضاً قد كفروا معه حین أجبروه على قبوله. فلابد له ولهم من التوبة.. وهم قد تابوا وبقی علیه هو أن یفعل ذلك..


وقد أوضح لهم أمیر المؤمنیین (علیه السلام)، وكذلك ابن عباس، أنهم مخطئون فی تصورهم هذا، وأنه (علیه السلام) لم یحكم الرجال فی دین الله، وإنما حكم القرآن.. وعلى فرض أنه قد حكم الرجال، فإن ذلك لیس بالأمر الموجب للكفر، إذ قد حكّم الله سبحانه الرجال فی أكثر من مورد أشار القرآن إلیه.


ومع أن «الخوارج» لم یجدوا ما ینفع فی رد هذه الحجة، فإنهم


____________



(1) هذا التعبیر یشیر إلى أن كلمة «زعم» الموجودة فی النص الثانی غیر صحیحة، وأن الصحیح هو أنهم قالوا: إنه كان وصیاً الخ..


(2) سورة آل عمران الآیة 97.


(3) راجع: مناقب الإمام علی لابن المغازلی ص409 و413 وتاریخ الیعقوبی ج2 ص192 والمسترشد فی إمامة علی بن أبی طالب ص70 و71 والاحتجاج ج1 ص276 و278 والبحار طبعة حجریة ج8 ص561 وبهج الصباغة ج7 ص136 و171 و172 وعبارة الاحتجاج هكذا: «.. وأما قولكم: إنی كنت وصیاً، فضیعت الوصیة، فأنتم كفرتم، وقدمتم علی، وأزلتم الأمر عنی، ولیس على الأوصیاء الدعاء إلى أنفسهم، إنما یبعث الله الأنبیاء، فیدعون إلى أنفسهم، وأما الوصی، فمدلول علیه الخ..»













الصفحة 125


التجأوا إلى الإصرار والعناد، ثم بادروا إلى الفساد والافساد كما سنرى.


علی (علیه السلام) یضیع الوصیة:


وعلى كل حال.. فإن مما برر به «الخوارج» حربهم لعلی (علیه السلام) هو: أنه كان وصیاً فضیع الوصیة.. الأمر الذی یدل على مدى رسوخ أمر الوصیة لعلی (علیه السلام) بالإمامة فی قلوب الناس وعقولهم.. فقد ورد أن من جملة ما احتجوا به لحربهم إیاه أن قالوا: «إنه كان وصیاً، فضیّع الوصیة».


أو قالوا ـ حسب نص آخر ـ: «زعم أنه وصی فضیّع الوصیة».


فأجابهم (علیه السلام) بقوله: «أما قولكم: إنی كنت وصیاً، فضّیعت الوصیة(1)، فإن الله عز وجل یقول: (ولله على الناس حج البیت من استطاع إلیه سبیلا. ومن كفر فإن الله غنی عن العالمین)(2).


أفرأیتم هذا البیت لو لم یحج إلیه أحد، كان البیت یكفر؟! إن هذا البیت لو تركه من استطاع إلیه سبیلا كفر، وأنتم كفرتم بترككم إیای، لا أنا كفرت بتركی لكم»(3).


____________



(1) هذا التعبیر یشیر إلى أن كلمة «زعم» الموجودة فی النص الثانی غیر صحیحة، وأن الصحیح هو أنهم قالوا: إنه كان وصیاً الخ..


(2) سورة آل عمران الآیة 97.


(3) راجع: مناقب الإمام علی لابن المغازلی ص409 و413 وتاریخ الیعقوبی ج2 ص192 والمسترشد فی إمامة علی بن أبی طالب ص70 و71 والاحتجاج ج1 ص276 و278


=>













الصفحة 126


وواضح: أن هذا التبریر الذی التجأ إلیه هؤلاء القوم یثیر أمامنا نقطتین هامتین لابد من الوقوف عندهما:


إحداهما: أن الوصایة التی یتحدثون عنها إنما هی وصایة إمامة وخلافة، لأن التحكیم إنما یضیع هذا النوع من الوصیة، لأنه یهدف إلى إثبات الأحقیة بالإمامة لأحد الفریقین، فهم یدعون على علی (علیه السلام) أنه بقبوله للتحكیم قد ضیع الوصیة الثابتة له بنص من رسول الله (صلى الله علیه وآله).


ولیس المراد تضییع الوصایة بأمور شخصیة، لأن ذلك لا ربط له بالتحكیم..


وهذا المعنى هو الذی یقصد من الوصیة حین تذكر فی مقام الاحتجاج، ویترنم بها الشعراء.. كما سنرى..


الثانیة: إنه یدل على أن أمر الوصایة لعلی (علیه السلام) قد كان من المسلمات فی صدر الإسلام حیث كان الموالون لعلی (علیه السلام) یحتجون ویباهون بهذا الأمر، ولم نجد أحداً حاول إنكار ذلك، أو الاعتراض، ولو بمثل القول، بأن ذلك غیر ثابت، أو أنه یحتاج إلى شاهد أو دلیل.


الشعر.. والوصیة:


وقد ذكر ابن أبی الحدید قائمة طویلة من الأشعار التی ذكرت أمر


____________



<=


والبحار طبعة حجریة ج8 ص561 وبهج الصباغة ج7 ص136 و171 و172 وعبارة الاحتجاج هكذا: «.. وأما قولكم: إنی كنت وصیاً، فضیعت الوصیة، فأنتم كفرتم، وقدمتم علی، وأزلتم الأمر عنی، ولیس على الأوصیاء الدعاء إلى أنفسهم، إنما یبعث الله الأنبیاء، فیدعون إلى أنفسهم، وأما الوصی، فمدلول علیه الخ..»













الصفحة 127


الوصیة لعلی (علیه السلام)، والتی قیلت فی صدر الإسلام.


ونحن نكتفی بما ذكره، ونقتصر على الأبیات التی هی محل الشاهد، فنقول:


قال عبد الله بن أبی سفیان بن الحارث بن عبد المطلب:


 













ومنا علی ذاك صاحب خیبـــر وصاحب بدر یوم سالت كتائبه
وصی النبی المصطفى وابن عمه فمن ذا یدانیه ومن ذا یقاربـه



وقال عبد الرحمن بن جعیل:


 













لعمری لقد بایعتم ذا حفیظـــة على الدین معروف العفاف موفقا
علیاً وصی المصطفى وابن عمه وأول من صلى أخا الدین والتقى



وقال أبو الهیثم بن التیهان، وكان بدریاً:


 









إن الوصی إمامنا وولینا برح الخفاء، وباحت الأسـرار



وقال عمر بن حارثة الأنصاری، وكان مع محمد بن الحنفیة یوم الجمل، وقد لامه أبوه (علیه السلام) لما أمره بالحملة، فتقاعس:


 









أبا حسن أنت فصل الأمور یبین بك الحل والمحـــرم



إلى أن قال:


 













فأعجلته والفتى مجمـــع بما یكره الرجل المحجـــم
سمی النبی وشبه الوصی(1) ورایته لونها العنـــــدم



وقال رجل من الأزد یوم الجمل:


 













هذا علی وهو الوصـــی آخاه یوم النجوة النبــــی
وقال: هذا بعدی الولـــی وعاه واع ونسی الشقـــی



وخرج یوم الجمل غلام من بنی ضبة، شاب معلم، من عسكر عائشة


____________



(1) أی أن محمد بن الحنفیة یشبه أباه الذی هو الوصی.



 













الصفحة 128


وهو یقول:


 













نحن بن ضبة أعداء عـــلی ذاك الذی یعرف فینا بالوصی
وفارس الخیل على عهد النبی ما أنا عن فضل عـلی بالعمی



وقال سعید بن قیس الهمدانی یوم الجمل، وكان فی عسكر علی (علیه السلام):


 













أیة حرب أضرمت نیرانــها وكسرت یوم الوغى مرانـها
قل للوصی أقبلت قحطانهــا فادع بها تكفیكها همدانهــا

هم بنوها وهم إخوانها



وقال زیاد بن لبید الأنصاری یوم الجمل، وكان من أصحاب علی (علیه السلام):


 

















كیف ترى الأنصارفی یوم الكلب إنا اناس لا نبالی من عطـب
ولا نبالی فی الوصی من غضب وإنما الأنصار جدلاً لعــب
هذا علی وابن عبد المطلــب ننصره الیوم على من قد كذب

من یكسب البغی فبئسا اكتسب



وستأتی أبیات حجر بن عدی أیضاً:












الصفحة 129


وقال خزیمة بن ثابت الأنصاری، ذو الشهادتین ـ وكان بدریاً ـ فی یوم الجمل أیضاً:


 













یا وصی النبی قد أجلت الحـر ب الاعادی وسارت الأضعان
واستقامت لك الأمر سوى الشام وفی الشام یظهر الإذعــان



وقال خزیمة أیضاً فی یوم الجمل:


 













أعائش خلی عن علی وعیبـه بما لیس فیه إنما أنت والـــده
وصی رسول الله من دون أهله وأنت على ما كان من ذاك شاهده



وقال ابن بدیل بن ورقاء الخزاعی یوم الجمل أیضاً:


 













یا قوم للخطة العظمى التی حدثت حرب الوصی وما للحرب من آسی
الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت تلك القبائل أخماساً لأســــداس



وقال عمرو بن أحیحة یوم الجمل، فی خطبة الحسن بن علی (علیه السلام) بعد خطبة عبد الله بن الزبیر:


 









حسن الخیر یا شبیه أبیـــــه قمت فینا مقام خیر خطیــــب



إلى ان قال:


 













وأبى الله أن یقوم بما قــــام به ابن الوصی، وابن النجیــب
ان شخصاً بین النبی لك الخیـر وبین الوصی غیر مشــــوب



وقال زحر بن قیس الجعفی یوم الجمل أیضاً:


 













أضربكم حتى تقروا لعلـــی خیر قریش كلها بعد النبــــی
من زانه الله وسماه الوصــی إن الولی حافظ ظهر الولـــی

كما الغوی تابع أمر الغوی



ذكر هذه الأشعار والأراجیز بأجمعها أبو مخنف، لوط بن یحیى، فی كتاب: وقعة الجمل. وأبو مخنف من المحدثین، وممن یرى صحة الإمامة بالاختیار، ولیس من الشیعة ولا معدوداً من رجالها.












الصفحة 130


ومما رویناه من أشعار صفین، التی تتضمن تسمیته (علیه السلام) بالوصی ما ذكره نصر بن مزاحم المنقری، فی كتاب «صفین»، وهو من رجال الحدیث.


قال زحر بن قیس الجعفی [ونسبها فی موضع آخر إلى جریر بن عبد الله البجلی](1):


 

















فصلى الإله على أحمـــد رسول الملیك تمام النعـــم
رسول الملیك ومن بعــده خلیفتنا القائم المدعـــــم
علیاً عنیت وصی النبــی نجالد عنه غواة الأمــــم



قال نصر: ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قیس:


 













أتانا الرسول رسول الإمام فسرّ بمقدمه المسلمونــــا
رسول الوصی وصی النبی له السبق والفضل فی المؤمنینا



ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث أیضاً:


 













أتانا الرسول رسول الوصی علی المهذب من هاشـــم
وزیر النبی وذو صهــره وخیر البریة والعالــــم



____________



(1) راجع: شرح نهج البلاغة، ط دار مكتبة الحیاة ج1 ص553.













الصفحة 131


وسیأتی شعر أمیر المؤمنیین (علیه السلام)..


وقال جریر بن عبد الله البجلی شعراً، بعث به إلى شرحبیل بن السمط، من أصحاب معاویة، وقد جاء فیه:


 

















مقال ابن هند فی علی عضیهة ولله فی صدر ابن أبی طالب أجل
وما كان إلا لازماً قعر بیتــه إلى أن أتى عثمان فی بیته الأجل
وصی رسول الله من دون أهله وفارسه الحامی به یضرب المثل



وقال النعمان بن عجلان الأنصاری:


 

















كیف التفرق والوصی أمامنـا لا كیف إلا حیرة وتخــــاذلا
لا تغبنن عقولكم لا خیر فـی من لم یكن عند البلابل عاقــلا
وذروا معاویة الغویّ وتابعـوا دین الوصی لتحمدوه آجــــلا



وقال عبد الرحمن بن ذؤیب الأسلمی 

















ألا ابلغ شرحبیل بن حــرب فما لك لا تهش إلا الضـــراب
فإن تسلم وتبق الدهر یومــا نزرك بجحفل عدد التــــراب
یقودهم الوصی إلیك حتــى یردك عن ضلال وارتیــــاب



ویقول المغیرة بن الحارث بن عبد المطلب:


 









فیكم وصی رسول الله قائدكم وصهره وكتاب الله قد نشــــرا



ویقول عبد الله بن العباس بن عبد المطلب:


 









وصی رسول الله من دون أهله وفارسه إن قیل: هل من منـــازل



قال المعتزلی: «والأشعار التی تتضمن هذه اللفظة كثیرة جداً، ولكننا ذكرنا منها ها هنا بعض ما قیل فی هذین الحزبین. فأما ما عداهما، فإنه یجل عن الحصر، ویعظم عن الإحصاء والعدد. ولولا خوف الملالة والإضجار، لذكرنا من ذلك ما یملأ أوراقاً كثیرة»(1).


____________



(1) جمیع ما تقدم قد ذكره المعتزلی فی شرح نهج البلاغة، ط دار مكتبة الحیاة ط سنة 1963 ج1 ص128 و133 والبحار ج38 ص20 و26 عنه..













الصفحة 132


وقد ذكر المعتزلی نفسه فی نفس الكتاب موارد أخرى، نذكر منها ما یلی:


قال عبد الله بن أبی سفیان بن الحارث بن عبد المطلب، مجیباً للولید بن عقبة بن أبی معیط:


 













وإن ولی الأمر بعد محمـــد علی وفی كل المواطن صاحبــه
وصی رسول الله حقاً وصنـوه وأول من صلى، ومن لان جانبـه



وقال خزیمة بن ثابت فی هذا:


 













وصی رسول الله من دون أهله وفارسه مذ كان فی سالف الزمـن
وأول من صلى من الناس كلهم سوى خیرة النسوان والله ذو منن(1)



وقال زفر بن بن یزید بن حذیفة الأسدی:


 









فحوطوا علیاً وانصروه فإنـه وصی وفی الإســلام أول أول(2)



وقال النعمان بن العجلان، مخاطباً عمرو بن العاص، وذلك بعد بیعة السقیفة، فی جملة قصیدة له:


 

















وكان هوانا فی علی وإنــه لأهل لها یا عمرو من حیث لا تدری
فذاك بعون الله یدعو إلى الهدى وینهى عن الفحشاء والبغی والنكـر
وصی النبی المصطفى وابن عمه وقاتل فرسان الضلالة والكفــر(3)



وقال حسان بن ثابت:


____________



(1) شرح نهج البلاغة ج4 ص227 و228 ط دار مكتبة الحیاة سنة 1964.


(2) المصدر السابق ج4 ص228.


(3) المصدر السابق ج2 ص280.













الصفحة 133


 









ألست أخاه فی الهدى ووصیه وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن(1)



وقال حجر بن عدی الكندی فی یوم الجمل أیضاً:


 





















یا ربنا سلم لنا علیـــــا سلم لنا المهذب التقیــــا
المؤمن المسترشد الرضیــا واجعله هادی أمة مهدیـــا
احفظه رب حفظك النبیــا لا خطل الرأی ولا غبیــا
فإنه كان لنا ولیــــــا ثم ارتضاه بعده وصیـا(2)



وقال المنذر بن أبی خمیصة الوداعی مخاطباً علیاً:


 









لیس منا من لم یكن لك فی الله ولیاً یا ذا الولا والوصیة(3)



بل إن علیاً أمیر المؤمنیین (علیه السلام) نفسه قد ذكر الوصیة له فی الشعر، فقال: فی أمر بیع عمرو بن العاص دینه لمعاویة:


 

























یا عجبا! لقد سمعت منكــرا كذبا على الله یشیب الشعــرا
یسترق السمع ویغشى البصرا ما كان یرضى أحمد لو أخبـرا
أن یقرنوا وصیه والأبتــرا شانی الرسول واللعین الأخزرا
كلاهما فی جنه قد عسكـرا قد باع هذا دینه فأفجــــرا
من ذا بدنیا بیعه قد خسـرا بملك مصران أصاب الظفـرا



الخ.. (4)


واللافت هنا: أن ابن أبی الحدید نفسه قد قرر هذه الوصایة فی شعره، فقال:


____________



(1) المصدر السابق ج2 ص283.


(2) المصدر السابق ج2 ص828 وج1 ص129 و130.


(3) المصدر السابق ج2 ص828.


(4) المصدر السابق ج1 ص324 و132.













الصفحة 134


 













وخیر خلق الله بعد المصطفى أعظمهم یوم الفخار شرفــا
السید المعظم الوصــــی بعل البتول المرتضى علـی



وابناه، الخ.. (1).


ولو أردنا استقصاء ذلك فی مصادره لاحتجنا إلى وقت طویل ولنتج عن ذلك ما یملأ عشرات الصفحات..


أما فی غیر الشعر، فالأمر أعظم وأعظم.. ولعل ما ذكرناه یكفی لمن ألقى السمع وهو شهید.


بذرة «الخوارج» متى كانت:


إن الظهور السافر للخوارج، وإن كان قد حصل فی صفین، فی حادثة رفع المصاحف، ثم التحكیم.. ولكن الحقیقة هی أن قلوبهم قد تغیرت قبل هذا الوقت، وبالذات فی حرب الجمل، حیث فاجأهم موقف علی (علیه السلام) تجاه السبی والغنائم فی تلك الحرب.


بل یمكن القول: إن ذلك قد بدأ منذ تولیه (علیه السلام) للخلافة، حینما خالف سیرة عمر بن الخطاب ـ المعظم عندهم جداً ـ فی العطاء، حیث ساوى بین الناس، ولم یفضل أحداً على أحد، فاعترضوا علیه. وكان هذا الأمر مما طالبوه به فی حرب الجمل، فقالوا له: أعطنا سنة العمرین(2). فأبى (علیه السلام) إلا أن یعطیهم سنة رسول الله (صلى الله علیه وآله) وسلم.


____________



(1) المصدر السابق ج3 ص645.


(2) قد تقدم هذا النص ومصادره فی فصل سابق فراجع.














الصفحة 135


فی حرب الجمل:


أما بالنسبة لما جرى فی حرب الجمل، واعتراضهم على أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی أمر الغنائم، فإنه صریح فی حقیقة ما كان یعتلج فی نفوسهم، وقد صرحوا به بعد التحكیم بعد خروجهم علیه صلوات الله وسلامه علیه..


فهؤلاء، قوم قد طغت علیهم أطماعهم، وكانوا یعانون من الجهل والغباء، ولاسیما بالنسبة للأحكام الإسلامیة، ثم قلة الدین، لم یستطیعوا أن یفهموا سرّ حرمان علی (علیه السلام) إیاهم من السبی مادام قد أعطاهم من الغنائم فی حرب الجمل، أو أنهم لم یمكنهم تقبل هذا الحرمان:


یقول النص التاریخی: «.. فأتاهم علی فی جیشه، وبرزوا إلیه بجمعهم، فقال لهم قبل القتال: ماذا نقمتم منی؟!


فقالوا: أول ما نقمنا منك: أنا قاتلنا بین یدیك یوم الجمل، فلما انهزم أصحاب الجمل أبحت لنا ما وجدنا فی عسكرهم، ومنعتنا من سبی نسائهم وذراریهم؛ فكیف استحللت مالهم، دون نسائهم والذریة؟!


فقال: إنما أبحت لكم أموالهم بدلاً عما كانوا أغاروا علیه من بیت مال البصرة، قبل قدومی علیهم، والنساء والذریة لم یقاتلونا. وكان لهم حكم الإسلام بحكم دار الإسلام، ولم یكن منهم ردّة عن الإسلام؛ ولا یجوز استرقاق من لم یكفر، وبعد.. لو أبحت لكم النساء، أیكم یأخذ عائشة فی سهمه؟!


فخجل القوم من هذا الخ..»(1).


____________



(1) الفرق بین الفرق ص78 وراجع: الفتوح لابن اعثم ج4 ص122/123 وقرب الإسناد ـ ط حجریة ص62، والبدایة والنهایة ج7 ص282 وراجع ص245 وفیها: أنهم سألوه


=>













الصفحة 136


وتذكر بعض المصادر أن اعتراضهم إنما كان على ابن عباس، فأجابهم بما ذكرناه آنفاً(1).


وفی نص آخر: أنه (علیه السلام) قال: «وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان فی دورهم فهو میراث لذریتهم، فإن عدا علینا أحد منهم اخذناه بذنبه، وإن كف عنا لم نحمل علیه ذنب غیره، یا أخا بكر،


____________



<=


أن یقسم فیهم أموال طلحة والزبیر، فأبى فطعنوا علیه الخ، وذخائر العقبى ص232 وأنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص360 و262 والجمل ص216 و217 والمناقب لابن شهر آشوب ج1 ص268 وجواهر الأخبار والآثار المطبوع بهامش البحر الزخار ج6 ص417 عن المعتزلی الحنفی وغیره وص420/421 وأحادیث أم المؤمنین عائشة للعسكری ص181/182 وتاریخ الطبری ج3 ص545 و543 والكامل للمبرد ج3 ص238 والعقد الفرید ج4 ـ ص331 وتلبیس إبلیس ص92 وكنز العمال ج11 ص309 و325 و326 و327 و330 والبحار طبع قدیم ج8 ص564 و565 و570 و573 عن كشف الغمة وغیره، والمسترشد فی إمامة علی بن أبی طالب ص70 وجامع بیان العلم ج2 ص127 و128 وترجمة الإمام علی من تاریخ دمشق، [بتحقیق المحمودی] ج3 ص151 و156 والمصنف ج1 ص158 و159 ومستدرك الحاكم ج2 ص151 وتلخصیه للذهبی بهامش نفس الصفحة والخصائص للنسائی ص146 و148 والمناقب للخوارزمی ص184 والكامل لابن الأثیر ج3 ص259 و255 والفصول المهمة لابن الصباغ ص66 و67 و93 و96، والإمامة والسیاسة ج1 ص77 و149 وتذكرة الخواص ص99 وراجع ص105 وكشف الغمة ج1 ص265 والبدء والتاریخ ج5 ص223 و224 والفائق ج4 ص129 ومناقب الإمام علی (علیه السلام) لابن المغازلی ص408 و410 وبهج الصباغة ج7 ص171 و172 عن المسترشد. وراجع ص176 عن المبرد، والوسائل ج11 ص58 و59 ـ باب25 الجهاد حدیث 5 و7. وجواهر الكلام ج21 ص336 و337.


(1) راجع: مجمع الزوائد ج6 ص240 وخصائص الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) للنسائی ص147 و148 والمناقب للخوارزمی ص184 و185 وترجمة الإمام علی (علیه السلام) من تاریخ دمشق [بتحقیق المحمودی] ج3 ص151 وعن: البدایة والنهایة ج7 ص276 و281 وعن تاریخ الیعقوبی ج2 ص167 وعن المناقب لابن شهر أشوب ج1 ص267.













الصفحة 137


لقد حكمت فیهم بحكم رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی أهل مكة، قسَّم ما حوى العسكر، ولم یعرض لما سوى ذلك، وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل..» إلى أن قال: «فإن أنتم لم تصدقونی وأكثرتم علی، ـ وذلك أنه تكلم فی هذا الأمر غیر واحد ـ فأیكم یأخذ عائشة بسهمه»؟


إلى أن قالت الروایة: «وتنادى الناس من كل جانب: أصبت یا أمیر المؤمنین، أصاب الله بك الرشاد والسداد»(1).


وفی نص آخر: أن الخوارج «لعنوا علیاً فی تركه اغتنام أموالهم، وسبی ذریتهم، ونسائهم»(2).


من سیرة علی (علیه السلام) فی حرب الجمل:


ولتوضیح ما صنعه علی (علیه السلام) فی غنائم حرب الجمل، وهو ما أثار حفیظة «الخوارج» نقول: إنهم یقولون: إنه (علیه السلام): «لما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فیه كادت أن تباع؛ فقام إلیه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین، هذه الفرس لی كانت، وإنما أعرتها لفلان، ولم أعلم أنه یخرج علیها؛ فسأله البینة على ذلك؛ فأقام البینة: أنها عاریة، فردها، وقسم ما سوى ذلك»(3).


ویقولون أیضاً: «.. فجعلوا یمرون بالذهب والفضة فی معسكرهم،


____________



(1) أحادیث أم المؤمنین عائشة ص181/182 عن كنز العمال ج8 ص215 و217 ومنتخبه ج6 ص315 و331 وراجع جواهر الأخبار والآثار المطبوع بهامش البحر الزخار ج6 ص420/421 والبحار ـ ط قدیم ج8 ص564/565.


(2) الملل والنحل ج1 ص116 وأحادیث أم المؤمنین عائشة ج1 ص188 عنه وعن الفرق ص58 وعن التبصیر ص27.


(3) الجمل ص216 و217.













الصفحة 138


والمتاع لا یعرض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذی قاتلوا به، والدواب التی حاربوا علیها. الخ..»(1).


«وجمع ما كان فی العسكر من شیء ثم بعث به إلى مسجد البصرة، أن من عرف شیئاً فلیأخذه إلا سلاحاً كان فی الخزائن علیه سمة السلطان، فإنه مما بقی ما لم یعرف، خذوا ما أجلبوا به علیكم من مال الله عز وجل، لا یحل لمسلم من مال المسلم المتوفى شیء، وإنما كان ذلك السلاح فی أیدیهم من غیر تنفل من السلطان»(2).


وقال المسعودی: «.. وقبض ما كان فی معسكرهم من سلاح، ودابة، ومتاع، وآلة، وغیر ذلك، فباعه وقسمه بین أصحابه، وأخذ لنفسه، كما أخذ كل واحد ممن معه من أصحابه، وأهله، وولده خمس مئة درهم؛ فأتاه رجل من أصحابه؛ فقال: یا أمیر المؤمنین، إنی لم آخذ شیئاً، وخلفنی عن الحضور كذا، وأدلى بعذره، فأعطاه الخمس مئة التی كانت له»(3).


نعم.. إن سیرة أمیر المؤمنیین (علیه السلام) فی مثل هذه المواقع هی سیرة الإسلام المحمدی الأصیل، وهی منة من الله سبحانه على عباده لابد لهم أن یعرفوها ویعترفوا بها لیخلصوا له العبادة، ولیتحسسوا عظمة الإسلام، ولأجل ذلك نجده (علیه السلام) یسعى إلى تنبیه الناس إلى ذلك، فهو یقول:


____________



(1) الأخبار الطوال ص151.


(2) تاریخ الطبری ج3 ص543 وراجع ص545 وراجع البدایة والنهایة ج7 ص245 والكامل لابن الأثیر ج3 ص255 و259 والفصول المهمة لابن الصباغ ص67.


(3) مروج الذهب ج2 ص371.













الصفحة 139


«أرأیتم، لو أنی غبت عن الناس من كان یسیر فیهم بهذه السیرة؟!»(1).


وعن أبی البحتری قال: لما انهزم أهل الجمل قال علی: «لا یطلبن عبد خارجاً من العسكر. وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم. ولیس لكم أم ولد. والمواریث على فرائض الله. وأی امرأة قتل زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشراً.


قالوا: یا أمیر المؤمنین، تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم؟!


فقال: كذلك السیرة فی أهل القبلة.


فخاصموه، قال: فهاتوا سهامكم، وأقرعوا على عائشة؛ فهی رأس الأمر، وقائدهم.


قال: ففرقوا، وقالوا: نستغفر الله!


فخصمهم علی»(2).


علی (علیه السلام) لم یخمس أهل الجمل:


ورووا أیضاً: «أن علیاً لم یخمس أهل الجمل..»(3).


ولكن فی نص آخر: أنه (علیه السلام) قال لهم حینما اعترضوا علیه: «وإن لكم فی خمسه لغنى، فیومئذٍ تكلمت الخوارج»(4).


فالظاهر أن من قال إنه (علیه السلام) لم یخمس، یرید أنه لم یخمس


____________



(1) المصنف ج10 ص124.


(2) كنز العمال ج11 ص326 و327 عن ابن أبی شیبة.


(3) أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص261.


(4) تاریخ الطبری ج3 ص545.













الصفحة 140


أموالهم التی لم یقاتلوا بها، ولم تكن فی الغنائم.. وكذا لم یخمس السلاح الذی للسلطان لأنه أرجعه إلى بیت المال.


ومن قال إنه خمسهم مراده: أنه خمس الكراع والسلاح الذی قاتلوه به.


آخر الدعاوى:


وأخیراً نقول: إن البعض یحاول أن یدعی: أن من أهم عوامل نشوء «الخوارج» هو عبد الله بن سبأ، ومبادؤه، التی منها جرأته على الخلفاء والأئمة، والحكم بتكفیرهم(1).


ولعله أخذ ذلك من بعض المستشرقین الذی أثار هذه النقطة بالذات, ثم حاول مناقشة هذا الزعم، فكان مما ذكره:


أن «الخوارج» أنفسهم كانوا ینعتون خصومهم الشیعة فی الكوفة بنعت السبئیة تحقیراً وذماً لهم (2).


ونقول:


لا ندری من أین تأكد لهؤلاء: أن ابن سبأ قد ترك هذا الأثر العظیم فی «الخوارج» وفی غیرهم، وبهذه السرعة الفائقة؟! حتى أصبحت نحلة السبأیة دیناً شائعاً، ووصفاً مشیناً ینعت به هذا الفریق من الناس؛ وذاك؟!


وابن سبأ إنما غالى فی أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فلاقى جزاءه على ید أمیر المؤمنین (علیه السلام) نفسه؟!


____________



(1) راجع: أدب المعتزلة ص27 و28 وهامش ص24.


(2) راجع: الخوارج والشیعة ص38. وارجع فی الهامش إلى تاریخ الطبری ج2 ص43.













الصفحة 141


وحدیث الجرأة على الخلفاء، والأئمة قد بدا من عهد رسول الله (صلى الله علیه وآله) حینما قیل له (صلى الله علیه وآله) وهو فی مرض موته: إن النبی لیهجر. وقبل ذلك حین كانوا یعترضون علیه فی الحدیبیة، ویقولون لا نعطی الدنیة فی دیننا، وغیر ذلك.


وأیة مبادئ جاء بها ابن سبأ، وبثها بین الناس یمكنهم أن یثبتوها بالدلیل وبالحجة؟!


ولماذا تعلموا من ابن سبأ الجرأة على الخلفاء، ولم یتعلموا غلوه فی أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى حد التألیه؟!


وإذا كان «الخوارج» ینعتون خصومهم بالسبئیة، فكیف یأخذون من ابن سبأ وعنه مبادئه. ویتأثرون بحالاته؟!












الصفحة 142












الصفحة 143